مُذكِّراتُ جُرَذ!

52746B3E-8EEE-46DD-BA3E-5876D678CE32.jpeg
المتوسط الأعلىÜst-Orta


كان منزلي أوّلَ أمري بمدينة "ماروت" في بيت رجل من النُّسّاك لم يكن له عِيَال، وكان يُؤْتَى في كل يوم بسَلّة من الطعام فيأكُلُ منها حاجته ويعلّقُ الباقِيَ، وكنت أرصُده حتى يخرجَ، وأثِبُ إلى السَّلّة فلا أَدَعُ فيها طعاما إلا أكلته، أو رَمَيْتُ به إلى الجِرْذان.

فجَهَد النّاسِك مرارا أن يُعلّقَ السلة في مكان لا أناله فلم يَقْدِر على ذلك، حتى نزل به ذاتَ ليلةٍ ضيفٌ، فأكَلَا جميعا، ثم أخذا في الحديث فقال النّاسِك للضيف: من أيّ أرض أقْبلتَ؟ وأين تريد الآن؟

وكان الرجل قد جاب الآفاق ورأى العجائب، فأنشأ يحدِّث الناسك عمّا وَطِئ من البلاد، ورأى من العجائب، وجعل الناسك خلال ذلك يُصَفِّق بيديه لِيُنَفِّرَنِي عن السلة، فغضِب الضيف وقال: أنا أُحدِّثك وأنت تَهْزَأُ بحديثي، فما حَمَلك على أن سألتني؟!

فاعتذر إليه الناسك، وقال: إنما أُصفِّق بيدي لأنفِّر جُرَذا قد تحيّرْتُ في أمره، ولست أضع في البيت شيئا إلا أكله. فقال الضيف: جُرَذٌ واحد يفعل ذلك أم جِرْذانٌ كثيرة؟

فقال الناسك: جِرْذان البيت كثيرة، لكنَّ فيها جرذا واحدا هو الذي غلبني فما أستطيع له حيلةً.

قال الضيف: لقد ذكّرتني قولَ الذي قال: لِأَمْرٍ مَا باعتْ هذه المرأة سِمْسِما مَقْشُورا بسِمْسِم غيرِ مقشور!

قال الناسك: وكيف كان ذلك؟

قال الضيف: نزلتُ مرّةً على رجل فتعشّيْنا، ثم فرش لي وانصرف إلى فراشه، فسمعته آخِرَ الليل يقول لامرأته: إني أريد أن أدعوَ غدا رَهْطا ليأكلوا عندنا، فاصنعي لهم طعاما.

فلما أصبحت المرأة أخذت سِمْسِما فقَشَرتْه، وبسَطَتْه في الشمس ليَجِفَّ، وقالت لغلام لهم: اطرُدْ عنه الطيرَ والكلابَ. وتَفرَّغت المرأة لعملها، وتغافل الغلام عن السمسم، فجاء كلبٌ فعاث فيه، فاستقذرته المرأة، وكَرِهَتْ أن تصنع منه طعاما، فذهبت به إلى السوق وأخذت به سمسما غير مقشور مِثْلا بمِثْل، وأنا واقفٌ في السوق، فقال رجل: لأمْرٍ ما باعت هذه المرأة سمسما مقشورا بسمسم غيرِ مقشور!

وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرت، فالتمس لي فَأْسا لعلِّي أحتفر جُحْرَه فأَطَّلِعَ على بعض شأنه.

فاستعار الناسك من بعض جيرانه فأسا فأتى بها الضيفَ، وأنا حينئذ في جُحْرٍ غيرِ جحري أسمع كلامهما، وفي جحري كِيسٌ فيه ألف دينار، لا أدري من وضعها، فاحتفر الضيف حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال للناسك: ما كان هذا الجرذ يقوى على الوثوب إلا بهذه الدنانير؛ فإن المال يزيد في القوة والرأي، وسترى بعد هذا أنه لا يقدر على الوثوب!

فلما كان من الغد اجتمع الجِرْذان الذين كانوا معي فقالوا: قد أصابنا الجوع، وأنت رجاؤنا!

فانطلقتُ، ومعي الجِرذان، إلى المكان الذي كنت أَثِبُ منه إلى السَّلّة، فحاولتُ الوُثُوبَ مِرارا فلم أقْدِرْ عليه، فاستبان للجِرْذان نقصُ حالي فجفَوْنَي ولَحِقُوا بأعدائي!

 

فقلت في نفسي: ما الإخوانُ والأصدِقاءُ إلا بالمال!

ووَجَدْتُ من لا مالَ له إذا أراد أمرا قعد به العُدْم عما يريده!

ووجدت الفقرَ رأسَ كلِّ بلاء وجالبا لكل مَقْت.

ووجدت الرجلَ إذا افتقر اتّهمه من كان له مؤتمِنا، وأساء به الظن من كان يظن به خيرا؛ فإن أذنب غيره كان هو للتُّهمة مَوْضِعا!

وليس من خَلّة هي للغنيّ مدحٌ إلا وهي للفقير ذمٌّ؛ فإن كان شجاعا قيل أهْوَجُ، وإن كان جوادا سُمِّيَ مُبذِّرا، وإن كان حليما سُمِّيَ ضعيفا، وإن كان وقورا سُمّي بليدا!

المصدر:

كَلِيلَة ودِمْنَة (بتصرف)

-دار الشروق (تحقيق عبد الوهاب عزام) ص 166-172.

-دار الكتب العلمية (ضمن آثار ابن المقفع) ص 145-149.

حَدِّدْ مَا هُوَ صَوابٌ ومَا هُوَ خَطَأٌ مِن المَعْلوماتِ التّالِيَة

اخْتَر الْإِجَابَةَ الصَّحِيحَةَ لِكُلٍّ مِن الأسْئِلَةِ التّالِيَة