29 /4/ 2017
كتابة الأعلام الأجنبية بالحروف العربية
لقد ازداد تواصل الشعوب والثقافات وأصبح العالم كما يقال قرية واحدة، ويقتضي ذلك أننا نحتاج إلى التعبير عن أسماء أعلام هذا القرية أشخاصًا وبلدانًا ومصطلحاتٍ...
والعَلَم –كما هو معروف- لا يترجم بل يُنقل بلفظه ولا يقع فيه من التغيير إلا ما تقتضيه طبيعة اللغة المنقول إليها.
وهو أمر يحتاج إلى جهد واجتهاد خاصلة حين يتعلق الأمر بالتعبير الكتابي؛ إذ ليس كل الأصوات المنطوقة في العالم لها رموز في اللغة العربية ولا في غيرها من اللغات.
وفي غياب تلك الرموز بدأ الاجتهاد في الحروف المناسبة للتعبير عن الأصوات التي لا رموز لها في العربية، وكان أهل كل منطقة يرسمون تلك الأصوات بحروف لها صلة بنطقهم، وهو ما أثار اضطرابا كثيرا في كتابة بعض الأصوات الأجنبية والكلمات التي تحويها.
ولعل أوضح مثال لذلك كتابة صوت الجيم غير المعطشة التي توجد في كثير من الأعلام والمصطلحات الأجنبية (وترسم فيها بالحرف "ɡ")، وتنطق بدلا من حروف عربية في بعض المناطق العربية؛ حيث نجد لهذا الصوت عدة صور منها:
- كتابته بالجيم (ج) كما يرسمه المصريون، وربما يعود ذلك إلى أن صوته قريب من نطقهم للجيم.
- كتابته بالقاف (ق) كما هي الحال في اليمن والسودان ودول الخليج العربية؛ حيث ينطق معظم الناس في هذه المنطقة في تعبيرهم العامي حرف القاف بهذا الصوت.
- كتابته بالقاف المثلثة (ڨ) كما هي الحال في تونس والجزائر.
- كتابته بالغين (غ) كما هي الحال في بعض بلاد الشام وبعض الكلمات المعرّبة قديما.
- كتابته بالكاف أو الكاف المثلثة (ڭـ) كما هي الحال في المغرب وموريتانيا.
- كتابته بكاف معقودة أو ما يسمى الكاف الفارسية (گ) كما هي الحال في العراق، ومعظم اللغات المكتوبة بالحرف العربي مثل الفارسية والأردية والتركية العثمانية.
وتفاديًا لتلك الفوضى في كتابة الأصوات الأجنبية كلف مجمع اللغة العربية بالقاهرة لجنة علمية بدراسة الأصوات التي لا نظير لها في العربية واقتراح صور لكتابتها، ومن ضمن تلك الأصوات صوت الجيم غير المعطشة، وقد اقترحت اللجنة كتابة هذا الصوت بالكاف الفارسية، وناقش مجلس المجمع المسألة في دورته الخامسة والعشرين فأقر مقترح اللجنة مع بقاء ما شاعت كتابته بالغين على حاله مثل يوغسلافيا وغانا وفيثاغورس وجغرافيا (كما نقله الدكتور شوقي ضيف في كتابه مجمع اللغة العربية في خمسين عاما/ ص: 113).
لكن هذا القرار لم ينفذ، إذ لا تزال كتابة هذا الحرف مضطربة مختلفة من مكان إلى آخر، ويكفي لمعرفة مستوى هذا الاضطراب أن نبحث مثلا عن اسم محرك البحث “google” بالعربية على الشبكة العالمية، في المحرك نفسه؛ حيث نجد النتائج التالية:
جوجل: 41800000 مرة.
غوغل: 9210000 مرة.
قوقل: 7930000 مرة.
كوكل: 987000 مرة.
وإذا كان لهذا الاختلاف مسوّغ حين كان التواصل بين تلك المناطق محدودا، فإنه لم يعد مقبولا بعد الثورة الرقمية التي جعلت الناس في تواصل يومي؛ حيث تكتب الكلمة في أيّ بلد فتُقرأ خلال لحظات في بقاع شتى من العالم عبر المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، هذا فضلا عن أهمية توحيد الكتابة في دقة عمليات البحث والإحصاء على الشبكة العالمية.
ما السبيل إلى توحيد الكتابة؟
أعتقد أن أهم خطوة في سبيل توحيد الكتابة هي وضع معايير علمية لمثل هذه الظواهر.
ولمّا كانت الكتابة تابعة في الأغلب للنطق ومتصلة به فينبغي أن يكون أول هذه المعايير هو مخرج الحرف وصفاته.
وهذا ما كان العرب يراعونه في التعامل مع الأصوات الأجنبية كما ذكره ابن بري في كتاب التعريب والمعرّب (ص: 22) حيث قال: "بَاب معرفة العرب في اسْتِعمال الأعجمي: اعلم أَنهم كثيرا ما يجترئون على تغيِير الأسماء الأعجمية إِذا استعملوها فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجا وربما أبدلوا ما بعد مخرجه أيضا والإبدال لازم لِئَلَّا يدخلوا في كلامهم ما ليس من حروفهم وربما غيّروا البناء من الكلام الفارسي إلى أبنية العرب".
وهذه مهمة مجامع اللغة العربية واللغويين المختصّين، فعلى هؤلاء أن يدرسوا الصوت الأجنبي المستهدف ثم يحددوا أقرب الحروف العربية إليه من حيث المخرج والصفة ويقترحوا الرمز الأنسب للتعبير عنه، ثم يأتي دور المجامع لتصدر قرارات بهذا الشأن وتسعى لتنفيذها وإشاعة العمل بها عبر المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام والشبكات الرقمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
27 /3/ 2017
إعراب "مثل"
كلمة مثل اسم يتردد في الكلام كثيرا، ويلتبس على بعض الناس إعرابه وضبط آخره، وإزالةً لذلك اللبس نوضح إعراب هذا الاسم في النقاط التالية:
* إذا جاءت "مثل" عنصرا أساسيا في تركيب الجملة أو معناها أعربت بحسب موقعها، فقد تكون فاعلا مثل قوله تعالى "وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ"، أو مفعولا به مثل "قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ"، أو نعتا مثل "مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا".
* إذا جاءت "مثل" بعد تمام الجملة (ويكون ذلك غالبا في الحالات التي تستخدم فيها لبيان المثال) جاز فيها:
- الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره "وذلك" فنقول مثلا: الناس اليوم تستعبدهم الأجهزة الإلكترونية مثلُ الجوال والحاسوب.
- والنصب على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف أو حال، فنقول مثلا: الناس اليوم تستعبدهم الأجهزة الإلكترونية مثلَ الجوال والحاسوب.
وينطبق هذا الإعراب على كلمة "نحو".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
27 /2/ 2017
أيهما صواب: "دَعُونَا نَرَ" أمْ "دَعُونَا نَرَى"؟
كذا سأل أحد الزملاء، وهو سؤال مشروع إذ لا أداة جزم هنا ولا عامل واضحا في التركيب.
ويتعلق هذا الإشكال بمسألة نحوية ليست جلية لدى غير المختصين، وهي جزم الفعل المضارع في جواب الطلب.
وقبل الخوض في تفاصيل هذه المسألة نقرر أن الصواب هو "دعونا نرَ" بحذف الألف؛ وذلك لأن الفعل المضارع جاء هنا جوابا للطلب أي لفعل الأمر "دعونا" وتقتضي القواعد أن يجزم في هذه الحالة وأن يحذف آخره كما هو معروف في الفعل المعتل الآخر عند جزمه.
الجزم بالطلب
وجزم المضارع في جواب الطلب حكم مقرر في كتب النحو ومستعمل في النصوص الفصيحة بكثرة خاصة إذا كان الطلب بصيغة الأمر.
ويشترط النحاة في جزم الفعل هنا أن يكون مترتبا على الطلب أي أن يكون وقوع الطلب سببا في وقوع الجواب.
ومن أهم أساليب الطلب التي يُجزم فيها الجواب:
- الأمر، سواء كان بصيغة فعل الأمر أو اسم الفعل الدال على الأمر مثل قوله تعالى "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، وقوله "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ"، ومثل قول الشاعر:
وقَوْلي كُلَّما جَشَأتْ وجَاشَتْ * مكانَكِ تُحْمَدِي أو تَسْتريحي
ومثل قول ذي الإصْبَعِ العَدوانيّ في وصية لابنه: "أَلِنْ جَانِبَك لِقَوْمِكَ يحِبُّوكَ، وتَوَاضَعْ لهم يَرْفَعُوكَ، وابسُطْ لهم وجهكَ يُطيعُوكَ".
أو كان بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر مثل قوله تعالى: "فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ".
- النهي، ومنه قول ذي الإصْبَعِ في الوصية المذكورة: "ولاَ تَسْتَأْثِرْ عليهم بِشَيْءٍ يُسوِّدوك".
- الاستفهام، ومنه -عند بعض النحاة- قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
31 /1/ 2017
ما رأيكم في "المخيال" و"الدولتي"؟
ترد اليوم على ألسنة الإعلاميين والمثقفين استعمالات كثيرة تخالف المألوف من اللغة والمقيس من الاستعمال، ويواجه أقوام هذه الاستعمالات بالتخطئة والرفض ويتلقفها آخرون بالترحاب والقبول وكأنه لا يمكن أن يكون "بين ذلك قوامًا"!
وأرى أن ذلك القوام يكمن في الانطلاق من أن اللغة كائن يتطور وينمو، ولكن بمقدار ووفق ضوابط محددة.
ومن هذا المنطلق كان ردي على السؤال أعلاه:
"المخيال" من الكلمات المستخدمة حديثا في مجالات الفكر والسياسة والثقافة، لكن يبدو أن هذه الكلمة لَمَّا تدخل المعاجم المعاصرة، ومن ثم لم يُبيَّن معناها بشكل دقيق.
فقد أطلقها بعض الباحثين (مثل صاحب كتاب "الزعيم السياسي في المخيال الإسلامي") على آلة التخيل وهذا هو المعنى المناسب لصيغتها الصرفية؛ لأن هذا الوزن من أوزان اسم الآلة. و"المخيال" بهذا المعنى اسم آلة صحيح قياسا ولا غبار عليه.
كما يطلق "المخيال" على ما يتخيله الناس وما يترسخ في أذهانهم عن جانب معين من جوانب الحياة مثل المخيال السياسي والمخيال الاجتماعي، وهو هنا اسم لما يُتخيَّل، وفي العربية مسميات سُميت بهذا الوزن مثل المقدار والمثقال.
وبناء على ذلك فلا أرى بأسا في قبول هذا الاسم من باب التطور اللغوي الذي يفسح له المجال في الألفاظ أكثر من غيرها، خاصة تلك التي تنطلق من أصل مستعمل في اللغة.
أما "الدولتي" فهي نسبة غير صحيحة نحويا؛ إذ إن القاعدة في النسبة إلى المختوم بتاء التأنيث توجب حذف التاء عند النسبة. ولا داعي لتكسير القواعد من غير ضرورة.
فالنسبة الصحيحة إلى الدولة هي "دَوْلي"، لكن هذه النسبة شاعت حديثا في النسبة إلى الدُّوَل، وهو ما يوقع في لبس ربما يكون هو سبب لجوء بعض الكتاب إلى استخدام "دولتي".
وأرى أنه للخروج من هذا الإشكال يمكن استخدام التركيب الإضافي بدل الوصفي فنقول مثلا: "عنف الدولة العربية" بدل قول الكاتب "العنف الدولتي العربي".
والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
30 /12/ 2016
الضرورة الشعرية
"السلام عليكم ما حكم تنوين الممنوع من الصرف تحديدًا صيغة منتهى الجموع حيث وجدت كلمة "مواعيظ" -وهي ممنوعة من الصرف لأنها صيغة منتهى الجموع- وجدتها منونةً بالضم في قصيدة "بانت سعاد" أو "أمست سعاد" -قصيدة البردة- في هذا البيت على وجه التحديد:
مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة الـ***قرآن فيها مواعيظٌ وتفصيل
مع العلم أنني وجدت البيت بهذا الشكل في كتاب الوزارة وحتى في موقعكم.
أرجو بيان سبب التنوين بشكل مفصل مع شكري وتقديري لجهدكم الرائع".
هذا سؤال ورد إلينا الأسبوع الماضي من أحد متابعي الموقع عبر صفحة "سل الأستاذ"، وقد أجبت السائل هناك بجواب مختصر كما هو المعتاد في تلك الصفحة، لكنه ربما يسأل هو وكثير من الدارسين: ما هذه الضرورة وإلى أي حد يسمح لها بكسر القواعد؟
لقد استنبط النحاة قواعد العربية من النصوص الفصيحة في عصر الاستشهاد وأحاطوها بسور من القوانين يحميها من اختراق غوائل اللحن والتبديل في العصور اللاحقة.
لكنهم وجدوا في استعمال الشعراء في عهود الفصاحة نصوصا تخرق ذلك السور، وحين حللوا تلك الاستعمالات لاحظوا أنها جاءت في أغلب الحالات منعا للوزن الشعري من الاختلال، وأن الشاعر يلجأ إليها لإقامة الوزن والقافية بصورة سلسة لا تكلف فيها.
وقد قبل النحاة هذه الضرورة التي تفسح للشعراء مجالا واسعا للتصرف في الألفاظ والتراكيب على نحو يخالف المطّرد من القواعد.
ومن أهم مظاهر الضرورة الشعرية:
- صرف الاسم الممنوع من الصرف:
حيث ينوّن الشاعر عند الضرورة الاسم الممنوع من الصرف كما في قول كعب بن زهير:
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْـ***قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
فقد نون "مواعيظ" وهو اسم ممنوع ممن الصرف؛ لأنه جاء على صيغة منتهى الجموع.
وقول الفرزدق:
هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله***بجده أنبياء الله قد ختموا
حيث نون "فاطمة" وهو اسم ممنوع ممن الصرف؛ لأنه علم مختوم بتاء التأنيث.
- منع الاسم المنصرف من الصرف
وذلك بحذف تنوينه، كما في قول الشاعر:
طلب الأزارقَ بالكتائب إذ هوَتْ***بِشَبيبَ غائلةُ النفوس غدور
حيث منع "شبيب" من الصرف، وهو اسم علم غير ممنوع من الصرف.
- مدّ الاسم المقصور
وذلك بزياد همزة في آخره كما في قول الشاعر:
سيغنيني الذي أغناك عني***فلا فقرٌ يدوم ولا غِناءُ
حيث استعمل "غناء" بالمد والمقصود هنا الغنَى الذي هو ضد الفقر.
- قصر الممدود
وذلك بحذف همزته كقول الشاعر:
لابدَّ من صَنْعَا وإن طال السَّفَرْ***وإنْ تَحَنَّى كلُّ عودٍ ودَبِرْ
والمقصود هنا مدينة صنعاء وهي اسم ممدود.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
30 /11/ 2016
اكتساب المضاف التأنيث والتذكير من المضاف إليه
يتألف التركيب الإضافي كما هو معلوم من عنصرين: مضاف ومضاف إليه، ويؤثر كل من هذين العنصرين في الآخر فيتجرد المضاف من التنوين وأداة التعريف ويلزم المضاف إليه الجر فور إنشاء التركيب الإضافي.
ولكن هناك تأثيرا آخر للمضاف إليه في المضاف غير متداول هو تأثيره فيه من حيث الجنس تأنيثا وتذكيرا.
فقد أقر النحاة بناءً على استعمالات عربية فصيحة جواز تأنيث المذكر المضاف إلى مؤنث إذا لم يؤد ذلك إلى لبس وأمكن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه دون فساد المعنى.
قال ابن مالك:
وَرُبَّما أكْسَبَ ثانٍ أولاً * تأْنِيثا إنْ كانَ لِحَذْفٍ مُوهَلاَ
ومن أمثلة ذلك قول العجاج:
طولُ اللَّياليِ أَسْرَعَتْ في نَقْضي
أَخَذْنَ بَعْضيِ وتَرَكْنَ بَعْضيِ
حيث أنث "طول" فوضع التاء في الفعل المسند إليه "أسرعت"، وذلك لأنه مضاف إلى اسم مؤنث هو "الليالي".
كما أجاز النحاة تذكير المؤنث المضاف إلى مذكر وجعلوا منه قوله تعالى "إن رحمة الله قريب من المحسنين"، حيث عوملت "رحمة" معاملة المذكر فأخبر عنها بمذكر وهو "قريب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
28 /7/ 2016
الضمير العائد على مَنْ ومَا
يلزم أن يعود على الاسم الموصول ضمير يربط الصلة بالموصول، ويكون هذا الضمير غالبا مطابقا للموصول لائقا به كما قال ابن مالك:
وكلها تلتزم بعده صله * على ضمير لائق مشتمله
وتنطبق هذه القاعدة بشكل واضح على الاسم الموصول الخاص (الذي والتي وفروعهما)، أما الموصول المشترك (مَنْ، وما) فالضمير العائد عليهما له صور وأحكام أخرى، حيث يأتي:
1 - مفردا مذكرا مراعاة للفظ هذين الاسمين، وهو الراجح عند النحاة إذا لم يؤد ذلك إلى اللبس.
ومنه قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ"، وقوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ"، إذ أسند الفعل في الآيتين إلى ضمير مفرد مذكر مراعاة للفظ "مَنْ" على الرغم من أنها تعبر هنا عن جمع.
وقد جاء على خلاف الراجح قول الفرزدق مخاطبا ذئبًا:
تعشّ فإنْ عاهدتني لا تخونني * نكن مثل مَنْ يا ذئب يصطحبان
2 - مطابقا لما تصفه "مَنْ" أو "ما" مراعاة للمعنى (أي معنى ما تنوبان عنه) وهو أمر جائز، ويكون راجحا حين يسبق الموصول ما يدل على معناه كقول الشاعر:
وإن مِن النسوان مَنْ هي روضة * تهيج الرياض قبلها وتصوح
حيث أسند الفعل إلى ضمير مؤنث مراعاة لمعنى "مَنْ" لأنه مسبوق بلفظ مؤنث هو "النسوان".
وقد يأتي هذا الضمير مراعيا للفظ ثم يأتي بعد ذلك مراعيا للمعنى كقوله تعالى: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ".
وربما ورد مطابقا مراعاة للمعنى ثم جاء بالإفراد والتذكير مراعاة للفظ كقوله تعالى: "وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حَتَّى.. الدلالة والوظيفة
حتّى حرف من حروف المعاني، يستخدم للدلالة على الغاية، أي أن ما بعدها يكون غاية لما قبلها.
أما من الناحية النحوية فلها أربع وظائف تُبنى على كل منها الحالة الإعرابية لما بعدها، حيث تكون:
1 - حرف جر مثل قوله تعالى: "سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ". 2
- حرف نصب ينصب الفعل المضارع مثل قوله تعالى: "فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا". 3 - حرف عطف مثل: جاء القومُ حتّى العُمَى.
4 - حرف ابتداء مثل قول الشاعر:
سَرَيتُ بهم حَتَّى تَكِلّ مَطِيُّهُمْ ... وحَتَّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بِأرْسانِ
وقد نظم بعضهم معاني حتى واستعمالاتها بقوله:
حتّى تكون حرف جر يا فتَى * وحرف نصب لمضارع أتَى
وحرف عطف ثم حرف الابتدا * أربعة فكن لها مقيدا
كمطلع الفجر وحتى يحكمَا * الناسُ جاؤوا كلهم حتّى العمى
يا عجبًا حتّى كليبُ سبّني * حتّى الجيادُ ما لَها مِن أرسُنِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تركيب "ولا سيما"
أولا: وظيفة هذا التركيب اللغوية
السيّ في اللغة المثل فمعنى "ولا سيما" هو ولا مثلما، ووظيفة هذا التركيب اللغوية هي إبراز أوْلوية ما بعده بالحكم على ما قبله وكونه آكد منه وأخصّ عند المتكلم.
ثانيا: طرائق استعماله
الاستعمال الأشهر والأفصح -عند جمهور النحاة- لهذا الأسلوب هو المجيء بتركيب "ولا سيما" بعناصرها الأربعة متبوعة بما يراد تخصيصه وتبيان أولويته نحو قول امرئ القيس:
أَلا رُبَّ يومٍ لكَ مِنْهُنَّ صالِحٍ * ولا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارةِ جُلْجُلِ
وقد ذهب بعضهم إلى تخطئة من استعمله على غير هذا الوجه، لكن تتبع استعمال هذا الأسلوب وتطوره يبيّن أنه ورد بصيغ أخرى أجازها بعض النحاة:
- حيث جاء بحذف الواو كقول الشاعر:
فِهْ بالعُقود وبالأَيمان لا سِيَما * عقْدٌ وفاءٌ به من أعظم القُرَب
وقد وردت "سي" هنا بتخفيف الياء، والأغلب فيها التشديد.
- ثم تطور فاستعمل بحذف "لا" وإن كان جمهور النحاة يمنع ذلك ويعتبره من كلام الأدباء المولدين حسب تعبير أبي حيان في القرن الثامن الهجري.
- كما أجاز بعضهم حذف "ما" فقال: لا سي زيد.
أمّا ما بعد "لا سيما" فالأغلب أن يكون اسما مفردا نحو: أحب مكارم الأخلاق ولا سيما الصدق.
وقد توصل "لا سيما" بظرف مثل يعجبني الاعتكاف ولاسيّما عند الكعبة، وقد توصل بجملة مثل يعجبني كلامك ولاسيّما تَعِظُ به.
وأجاز بعض النحاة مجيء الواو بعد "لا سيما" في نحو: لا سيّما والأمر كذلك، ومنعه بعضهم واعتبره تركيبا غير عربي.
ثالثا: أوجه إعرابه:
يذكر النحاة لمفردات هذا الأسلوب أوجهًا واحتمالات كثيرة من الإعراب أبرزها:
- الواو: حرف عطف وقد يكون هنا للاستئناف أو للحال.
- لا: حرف لنفي الجنس، يعمل عمل إن.
- سي: اسم "لا" منصوب إذا اعتبرناه مضافا إلى "ما" ومبني على الفتح في محل نصب إذا لم يكن كذلك، وخبر "لا" محذوف.
- ما: تحتمل أن تكون اسما مبنيا على السكون في محل جر بإضافة "سي" إليه، باعتبارها موصولة أو نكرة بمعنى شيء وتحتمل أن تكون حرفا زائدا لا محل له من الإعراب.
- يوم: يجوز فيه –وفي الاسم الوارد بعد "لا سيما" عموما- الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره "هو"، والنصب على أنه تمييز أو مفعول فعل محذوف تقديره "أعني"، كما يجوز فيه الجر على أنه بدل من "ما" أو بإضافة "سي" إليه باعتبار "ما" زائدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشروعات أو مشاريع
يرتبك بعض الكتاب في مفردات مثل مشروع وموضوع ومعجم، أيجمعها جمع سلامة: مشروعات، موضوعات، معجمات، أم يجمعها جمع تكسير: مشاريع، مواضيع، معاجم؟
والقياس عند النحاة في هذا النوع من الصفات المستعملة لوصف ما لا يعقل أن يُجمع جمعَ مؤنث سالمًا مثل قوله تعالى "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ".
وعلى هذا الأساس خطّأ بعض اللغويين جمع هذا النوع من الأسماء جمع تكسير.
ولكن منهج التيسير اللغوي يقتضي جواز جمع هذه الصفات جمع تكسير إلى جانب الجمع السالم، وهو ما ذهبت إليه المعاجم الحديثة فأجازت مشروعات ومشاريع، وموضوعات ومواضيع، ومعجمات ومعاجم.
وعليه فالجمعان سَلِيمان وللكاتب أن يختار أيًّا منهما شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"أبو فلان" بين الإعراب والحكاية
"أبو" اسم من الأسماء الخمسة (أو الستة) يرفع بالواو وينصب بالألف ويجر بالياء بشروط معينة، كما هو معلوم من النحو بالضرورة.
وقد سمع في لغات العرب مقصورا أي ملزما الألف "أبَا" في جميع الحالات كقول الشاعر:
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
والاستعمال الأول هو الشائع المشهور في كلام العرب، ولم يفرقوا في ذلك بين أن يكون كنية أو اسما، ولا بين كونه كنية حقيقية لشخص مثل أبي بكر أو مجازية لجماد مثل أبي قبيس (وهو جبل بمكة).
بل إنهم اعتبروا استعمال هذا الاسم على غير هذا الوجه لحنا يستحق التأديب وجهلا يجلب التندّر والإبعاد.
رَوَت كتب الأدب أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وردت إليه رسالة من أحد ولاته جاء فيها "من أبو موسى" فكتب إليه عمر: "أن قنِّع كاتبك سوطًا" وزادت بعض الروايات: "واعزله عن عملك".
وقال رجل للحسن: "يا أبو سعيد"، فقال الحسن: أكسبُ الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا أبا سعيد؟!
ورُوِي أن الحجاج بن يوسف بعث إلى والي البصرة أن اختر لي عشرة من عندك، فاختار رجالاً، منهم كثير بن أبي كثير. قال كثير: فقلتُ في نفسي: لا أفلت من الحجاج إلا باللحن، قال: فلمَّا أدخلنا عليه دعاني، فقال: ما اسمك؟ قلت: كثير، قال: ابن مَن؟ فقلتُ: إن قلتها بالواو، لَم آمن أن يتجاوَزها، قال: أنا ابن أبا كثير، فقال: عليك لعنة الله، وعلى مَن بعث بك، جيئوا في قفاه، قال: فأُخْرِجْتُ!!
على هذا النحو كان الذوق اللغوي وعليه سارت القواعد النحوية، أما في اللغة الحديثة فهناك ميل لاستخدام هذا النوع من الأسماء حكايةً على نمط واحد بغض النظر عن موقعه الإعرابي، وربما يكون ذلك تأثرا باللهجات والاستعمال العامي الذي تخلى عن الإعراب عموما ودرج على تسكين أواخر الكلم.
وقد سوّغ هذا الاستعمال بعض النحاة المحدثين مثل الأستاذ عباس حسن الذي رأى أن الأسماء الستة إذا سُمّي بأحدها يجوز إعرابه بالحروف، ويجوز أن "يلتزم حالة واحدة لا يتغير فيها آخره، ويكون معها معربًا بعلامة مقدرة".
وربما يجد هذا الرأي سندًا فيما نص عليه النحاة من جواز ذلك في لفظ المثنى وجمع المذكر السالم إذا سمي بهما.
لكن ينغّص عليه أن القارئ أو السامع غير المختص لا يسهل عليه أن يميز بين ما سمي به من تلك الأسماء وما لم يسم به، ثم إنه سيجد حسّه اللغوي في اضطراب بين ما ألفه من استعمال لهذه الأسماء في التراث العربي طوال قرون وما يسمعه أو يقرؤه في وسائل الإعلام اليوم.
لذا فإني أرى أنه ينبغي استعمال هذا النوع من الأسماء معربا بالواو رفعا والألف نصبا والياء جرّا بحسب موقعه من الإعراب، فبذلك نحفظ للعربية سمتها الأصيل ونكفل للأجيال ذوقا لغويا سليما متصلا بتراثهم، ونجنّب الكتّاب والمذيعين تندُّر القرّاء والسامعين حين يتلقّون منهم استعمالا لم يألفوه ولا يدرون ما مسوّغه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
29/12/2013
اللغة العربية في يومها العالمي
تقام هذه الأيام لقاءات ونشاطات عديدة احتفاء باليوم العالمي للغة العربية (18 ديسمبر) وهو اليوم الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 اللغة العربية لغةً رسمية في هيئات المنظمة بعد جهود من دول عربية، وقد أقرت اليونسكو عام 2012 أن يكون هذا اليوم من كل عام يوما عالميا للاحتفاء باللغة العربية تناقش فيه قضاياها وسبل النهوض بها.
نموّ وإقبال
وحسنًا فعلت الجمعية العامة وحسنًا فعلت اليونسكو، فاللغة العربية تستحق ذلك وأكثر، فهي لغة قومية لنحو ثلاثمائة مليون عربي، ولغة دين وحضارة لأكثر من مليار مسلم في العالم ينطقون بها يوميا في صلواتهم وأذكارهم، وهي من أسرع اللغات نموًّا وانتشارا في العالم حيث وصل متحدثوها -بحسب تقديرات الأمم المتحدة- إلى نحو أربعمائة مليون شخص، واحتلت مراكز متقدمة بين اللغات الأكثر استخداما في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعزز نمو اللغة العربية وانتشارها إقبال المسلمين في أرجاء العالم على تعلمها تعبدا وتقربا إلى الله تعالى. فلا تزال أفواج الطلاب المسلمين تتوافد على الجامعات والمعاهد العربية والإسلامية سعيًا لتعلم العربية وسماعها من أهلها على سنة الأصمعي وسيبويه والكسائي، مضحّين بما ألفوه من راحة الجسم ورغد العيش. وإنك لتجد من ذلك العجب حين ترى جماعات من الطلاب تضم الآسيوي والأفريقي والأوروبي متحلقة على شيخ محضرة في صحراء موريتانيا لا هم لها سوى إتقان اللغة العربية والعلوم الشرعية.
ويحضرني الآن مثال أبلغ على هذه الإرادة القوية والتفاني في تعلم العربية. ففي عام 1992 لقيت رجلا من داغستان حاجًّا يتكلم اللغة العربية بطلاقة ويجيب بثقة عن مسائل دقيقة من النحو والصرف فعجبت من فصاحته وسألته كيف درس العربية؟ قال "كنا في العهد السوفياتي –ومظاهر التدين ومنها اللغة العربية مطاردة- نخبئ المصاحف وكتب الدين واللغة العربية في المقابر حتى إذا زرنا تلك المقابر نخرج تلك الكتب ونتدارسها موهِمين السلطات بأن ذلك من تقاليدنا في زيارة المقابر"!
فبهذه الإرادة الصلبة وبهذا الربط بين اللغة العربية والإسلام نمت العربية وانتشرت عبر القرون وخدمها قوم ليسوا من وطنها ولا من بني جلدتها، فبنوا لها المدارس والجامعات، ونشروها في الآفاق وكتبوا بأحرفها لغاتهم المحلية. ولا يغض ذلك من جهود غير المسلمين في خدمة العربية خاصّة المسيحيين العرب الذين أسهموا إسهاما كبيرا في النهضة العربية الحديثة.
إهمال وصدود
كنت أتوقع في اليوم العالمي للغة العربية –وكل أيام السنة عندي أيام للعربية- أن أجد في الوطن العربي نشاطات وأعمالا جساما تعزز لغة الضاد وتُعلي من شأنها، فنظرت في قنوات التلفزة وتصفحت الصحف والمواقع الإلكترونية فلم أظفر من ذلك بطائل!
بل إن المتابع لوضع هذه اللغة في وطنها يلاحظ إهمالا كبيرا وإعراضا شديدا.
يبدأ ذلك من إهمال تنشئة الأطفال على لغتهم والإقبال على المدارس التي تركز على اللغات الأجنبية بحجة أنها لغة التقدم والابتكار، وهي حجة دحضتها الدراسات الحديثة التي أكدت أن الطالب لا يستوعب العلوم بقدر يمكنه من الإبداع فيها إلا إذا تلقاها بلغته الأم، بل إن بعض التربويين ذهب إلى أن عدم تنشئة الطفل على لغته الأم يضعف شخصيته ويحط من ثقته بنفسه. هذا فضلا عن أن هذا النمط من التعليم -إذا لم تصاحبه جهود مكثفة لربط الطفل بلغته وثقافته- سيجعله مسخًا لا هوية له مذبذبًا بين حضارته التي لا يستوعب ثقافتها وقيمها لأنه لم يتعلم لغتها، والحضارة التي تعلم لغتها لكنه لا يستطيع الاندماج فيها لأنه ليس من نبتتها.
ومع احترامنا للغات الأخرى واقتناعنا بأهمية تعلمها فإننا نرى أن تنشئة أطفالنا عليها وعدم تعليمهم العربية اعتداء على حق من حقوقهم وتفريط في مستقبل ولائهم لأمتهم. فإذا كانت المواثيق الدولية (اتفاقية حقوق الطفل المادة 30) تنص على أنه لا يجوز حرمان أبناء الأقليات من التمتع بثقافاتهم واستعمال لغاتهم، فما بالك بأبناء الأكثريات؟!
مظهر آخر من الإهمال والإعراض هو الانبهار باللغات الأجنبية والتخاطب بها وحشو العربية بالألفاظ والمصطلحات الأجنبية من غير حاجة لذلك لتغدو هجينة مرقعة:
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى * لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقـعـة * مـشـكلة الألوان مختلفـات
ولدى العرب اليوم في هذا المجال سلوك لا يكاد يوجد عند غيرهم، ذلك هو التخاطب مع الأجنبي الوافد بلغته وعدم تكليفه بذل جهد في تعلم لغة البلد المضيف خلافا لما يجري في بلدان العالم. فالوافد على بلادنا سيجد من يكلمه بحماس بلغته إن كان من أصحاب اللغة الأجنبية المهيمنة، وسيجد من يكسّر له العربية لتتوافق مع لكنته إن كان من قوم دون ذلك. ولئن وجدتَ للنمط الأول تعليلا في نظرية ابن خلدون بأن "المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب" فلن تجد للنمط الثاني مسوّغا سوى الإهمال وعدم الشعور بالمسؤولية؟
قد يكون هذا السلوك من باب إكرام الضيف والانفتاح على الآخرين ونِعْمَ الإكرام خلُقًا ونِعْمَ الانفتاح سلوكًا ولكنهما ينبغي ألا يجورَا على حق لغتنا في الانتشار وحق الوافدين في تعلم لغة البلاد التي يقيمون فيها.
إن الأمم التي تحترم هويتها وتسعى للنهوض من كبوتها لا تتخلى عن لغتها ولا تفرط في حضارتها، وأوضح مثال لذلك في المجتمعات الحديثة تشبث الألمانيين واليابانيين بلغتهم وتراثهم في وجه من هزموهم عسكريا.
في حلقة برنامج "تحت المجهر" الذي بثته قناة الجزيرة في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2013 بعنوان "لسان الضاد يجمعنا" قال الدكتور أحمد الخطيب إنه كتب رسالة باللغة الإنجليزية إلى جامعة ألمانية يطلب فيها نسخة من مخطوطة بمكتبتها فكان رد الجامعة "نحن نثق بك وسنرسل إليك نسخة من المخطوطة، ولكن حذارِ من أن تخاطبنا بغير اللغة الألمانية فلن نلتفت إلى رسائلك بعد اليوم".
وذكر الدكتور محمد عابد الجابري أنه حضر مؤتمرا في اليابان منظما باللغة الإنجليزية ولاحظ أن المشاركين اليابانيين فيه كُتبت أسماؤهم باليابانية وحدها، وقدموا مشاركاتهم باليابانية رغم أنهم يعرفون الإنجليزية ولم يروا في ذلك حرجا أو تقصيرا في حق ضيوفهم. واستطرد قائلا: "كنت في إسبانيا مرة وطلبت مكالمة هاتفية من بدالة القسم الدولي وكنت أتحدث بالفرنسية فأجابتني: أنت الآن في إسبانيا وعليك أن تتحدث بالإسبانية وقطعَت الخطّ". (المسألة الثقافية في الوطن العربي ص 275).
لا أدعو إلى رمي رسائل الناس ولا إلى قطع الخطوط عنهم، فأخلاقنا لا تقر ذلك لكني لا أستسيغ الانبهار بلغاتهم والتنكر للغتنا وحضارتنا.
ولو اقتصر الصدود عن اللغة العربية على هذا الميدان لهان الأمر، فالمنافس الخارجي يسهل صده بتقوية الجبهة الداخلية، أما إذا جاءت المنافسة ومعاول الهدم من تلك الجبهة ذاتها فتلك مصيبة كبرى. وهذا هو حال اللغة العربية مع اللهجات المحلية التي يفترض أن تكون لها مصدر إثراء وخط دفاع، فقد أصبحت هذه اللهجات تزاحم الفصحى في المنابر ووسائل الإعلام بل في غرف التدريس وتلك هي قاصمة الظهر!
وبذلك تصبح الفصحى غريبة بين أهلها تستوحشها الآذان وتنبو عنها الأذواق كما هو حال أولئك الطلاب الذين اشتكوا مدرسًا لهم قائلين: "لا نفهم عليه. ما يتكلم عربي. إنه يتكلم بلغة القرآن"!
وأغرب من ذلك أنك تجد مِن المثقفين مَن يدافع عن هذا المنحى ويشمئز من الحديث بالفصحى ويراه خاصًّا بالأعاجم، بل تجد من يشكّ في أنها كانت لغة تخاطب يومًا مَّا. قبل سنوات كنت في حديث مع مدرسين عن أهمية تعزيز الفصحى فسألني أحدهم –وعلامات البراءة والاستغراب تبدو على وجهه- هل كان العرب الأوائل فعلًا يتكلمون بينهم بهذه اللغة؟!
ولم تقف هجمة العاميات عند لغة التخاطب الشفوي بل تجاوزت ذلك إلى اللغة المكتوبة آخر قلاع الفصحى، والناظر في مواقع التواصل الاجتماعي اليوم يجد من ذلك العجب العجاب.
فهل تستحق اللغة العربية كل هذا الإهمال والصدود؟ وإلى متى يهمل العرب لغتهم والعالم يتطلع إليها، ويصدون عنها والمسلمون يتلهفون إليها؟!
إنّ ذلك لظلم عظيم.
وظُلمُ ذوي القربَى أشدّ مضاضة * على المرء من وقع الحسام المهنّد
اتجاهات النهوض
لقد آن لنا أن نلتفت إلى لغتنا وأن نوظّف تقدير العالم لها فنقوم بعمل جاد للنهوض بها، وينبغي أن يسير ذلك العمل في اتجاهات عديدة.
اتجاه تربوي يعزز العربية في مؤسسات التعليم ويصلح مناهجها ويجعلها مادة دراسة وتدريس في المراحل الابتدائية والثانوية على الأقل تمهيدا للتدريس بها في جميع مراحل التعليم، ويجدر بالعمل في هذا الاتجاه أن يولي أهمية قصوى لإعداد مدرسي اللغة العربية ووسائلها التعليمية.
اتجاه مجتمعي يرسخ حب العربية والاعتزاز بها في النفوس وينمي في الفرد ال